السودان وتشاد- نحو تصفير المشكلات لتعزيز علاقات الجوار التاريخية

ها هي الحرب المفروضة على السودان وشعبه تدخل عامها الثالث، وقد طرأت تحولات جذرية على مسار المعركة، وتغيرت موازين القوى في ساحة القتال، مما أثر بصورة ملحوظة على مواقف اللاعبين الإقليميين والدوليين.
إن الانتصارات الساحقة التي حققتها القوات المسلحة السودانية، والهزائم الموجعة التي تكبدتها مليشيا الدعم السريع، قد أفضت إلى فرض إرادة الدولة السودانية التي كادت أن تسقط في براثن الخاطفين، وعززت الرواية الحقيقية لهذه الحرب، والتي ترمي إلى الاستيلاء على السلطة وتهجير السكان الأصليين، وفرض واقع اجتماعي منافٍ للقيم والأخلاق. وتتجلى هذه الحقيقة في الممارسات اللاإنسانية التي ترتكبها مليشيا الدعم السريع بحق المدنيين العزل وممتلكاتهم.
غالبًا ما تدفع التحولات الجيوسياسية الكبرى في الصراعات جميع الأطراف الفاعلة، سواء الرئيسية أو الثانوية، إلى إعادة تقييم مواقفها واستشراف المستقبل ومحاولة إيجاد المسار الأمثل.
وبما أن السياسة لا تعرف عداوات دائمة، فإن مراجعة الدول لسياساتها وتصحيح مساراتها يعتبر من الحكمة والحصافة السياسية، وهو نهج معهود في السلوك السياسي للأنظمة والدول.
وفي ظل المساعي الحثيثة التي نشهدها اليوم من جانب العديد من الدول والجماعات لتصحيح مواقفها تجاه الحرب المفروضة على الدولة والشعب السوداني، فإن هذا المقال يمثل دعوة مخلصة وصارخة لكل من السودان وتشاد لتجاوز الخلافات وتصفير المشكلات، وإعادة بناء العلاقة التاريخية الوطيدة بينهما، والعودة إلى مسار العلاقات الطبيعية التي لطالما اتسمت بالتعاون والتكامل وحسن الجوار، بينما كانت الخلافات والنزاعات مجرد استثناء عابر.
الثابت والمتغير في العلاقات
من أبرز ثوابت هذه العلاقة أنها علاقات راسخة الجذور تمتد في أعماق التاريخ والثقافة والتراث الاجتماعي المشترك بين المجموعات العرقية والقبائل المتجذرة، وهي علاقة تتميز بديناميكية اجتماعية متجددة وحيوية.
يشترك السودان وتشاد في حدود طويلة تمتد لأكثر من 1400 كيلومتر، وهي ثاني أطول حدود للسودان مع دول الجوار بعد حدوده مع دولة جنوب السودان.
تتميز الحدود بين البلدين بأنها مفتوحة ولا تعيقها تضاريس وعرة، مما يسهل حركة السكان ويصعب السيطرة عليها. إنها أرض مترامية الأطراف، منبسطة وخصبة، تمتد في شكل حزام طويل وواسع ومتداخل من منطقة موندو وأبشي وأدري في تشاد، مرورًا بولايات دارفور وحتى غرب كردفان في السودان.
هذا السهل الفسيح يقطنه أكثر من عشرين قبيلة مشتركة بين البلدين، تربطها امتدادات اجتماعية عميقة، تعززت بالزواج والمصاهرة والأنظمة والتقاليد القبلية الراسخة في هذه المجتمعات.
والحقيقة أن التداخل القبلي والاندماج المجتمعي والتواصل الأسري الميسر بين مواطني السودان وتشاد يمثل حالة فريدة من نوعها، مقارنة بعلاقات السودان مع جميع جيرانه الآخرين.
إن الثوابت القوية والمتعددة في العلاقة بين البلدين جعلت التعاون والتكامل والتنسيق في جميع المجالات هو الأصل في هذه العلاقة، بينما يعتبر العداء مجرد استثناء.
وباستعراض تاريخ البلدين، نجد أن الدبلوماسية السودانية ظلت دومًا نشطة وفاعلة في تعزيز العلاقات بين البلدين وترسيخ السلام والأمن في تشاد، خلال الحروب الطويلة التي شهدتها منذ استقلالها عن فرنسا في العام 1960، وحتى وصول الرئيس الراحل إدريس ديبي إلى السلطة في العام 1991، وهي أطول فترة استقرار نسبي تعيشها تشاد في تاريخها المعاصر.
وقد أسهم السودان بشكل كبير في تحقيق الاستقرار في تشاد، واستضاف العديد من مؤتمرات السلام والمصالحة بين الأطراف التشادية المتنازعة.
لذلك، فإن حالة الفتور التي طرأت على العلاقات بين السودان وتشاد بسبب الحرب المفروضة على السودان، هي حالة مؤقتة، لأنها تتعارض مع ثوابت العلاقة التاريخية بين البلدين.
ومن مصلحة قيادة وشعب البلدين التحلي بالشجاعة والرؤية السياسية لإعادة العلاقات بينهما إلى طبيعتها المسالمة، وأيسر الطرق لتحقيق ذلك هو العمل على تصفير المشكلات، مهما كانت دوافعها.
تشاد ومعضلة الأمن والاستقرار
يؤكد تاريخ جمهورية تشاد المعاصر أنها دولة تعج بالاضطرابات والنزاعات والصراعات السياسية والأمنية منذ الاستقلال وحتى اليوم. يُعتبر الرئيس فرانسوا تمبلباي، رائد الاستقلال وأول زعيم للدولة الحديثة، لكنه لم يتمتع بإجماع وطني، مما دفع المجموعات العرقية الشمالية إلى الانتفاضة.
وهكذا اندلعت الحرب في الدولة الوليدة منذ العام 1963 تقريبًا، واستمرت سلسلة الحروب والتمرد والعصيان على الدولة حتى يومنا هذا.
تختلف الصراعات والحروب في تشاد عن مثيلتها في السودان، حيث يقتصر الصراع في السودان على إقليم معين، وغالبًا في الأطراف، ولا يكاد المواطن العادي في العاصمة والمدن الكبرى يشعر بوطأته. ولم ينجح أي تمرد على الدولة في تاريخ السودان في الوصول إلى العاصمة، أو انتزاع السلطة المركزية بالقوة.
في المقابل، تستهدف الحروب في تشاد العاصمة مباشرة، وتنتزع السلطة في المركز بالقوة، وتقوم بإعادة بناء الدولة من جديد. هكذا فعلت حركة فرولينا بقيادة جوكوني عويدي، التي أسقطت نظام الرئيس مالوم وسيطرت على العاصمة، وحكمت تشاد بقوة السلاح.
وعلى نفس النهج سار الدكتاتور حسين حبري، الذي تمرّد على جوكوني ونظّم حرب عصابات قوية استطاعت أن تسقط الحكومة المركزية، وتقتحم العاصمة نجامينا، وتحكم حسين حبري بقبضة من حديد ونار حتى أطاح به وزير دفاعه الجنرال إدريس ديبي في العام 1990 بثورة مسلحة.
إن حالة الفوضى والاضطراب السياسي المتكرر في تشاد أدت إلى ضعف الدولة وهشاشة المؤسسات المدنية والعسكرية، وتغليب النزعة القبلية، لأن كل حركة كانت تعتمد على قبائل معينة تشكل العمود الفقري لقواتها.
ويؤكد ذلك أنه، منذ استقلال تشاد عن فرنسا في العام 1960، جرى اقتحام العاصمة نجامينا ثلاث مرات، وحُلّ الجيش الوطني ثلاث مرات، وأُعيد بناء الخدمة المدنية ثلاث مرات على الأقل.
أما النقطة الأهم، والجديرة بالنظر، فهي أن جميع الحركات التي نجحت في انتزاع السلطة في نجامينا جاءت عن طريق شرق تشاد، أي غرب السودان.
يدرك العسكريون جيدًا أن الحدود الوحيدة التي يمكن أن تهدد الأمن والاستقرار في تشاد هي حدودها مع السودان. ويؤكد ذلك أنه طوال تاريخ تشاد المضطرب لم تسلك أي حركة عسكرية الحدود الجنوبية مع أفريقيا الوسطى، بل إن ليبيا القذافي، وفي صراعها الطويل مع تشاد، احتلت شريط أوزو، وتمددت في المناطق الصحراوية في شمال تشاد، لكنها لم تنجح في الوصول إلى العاصمة. حتى هزمها وزير الدفاع حينها، إدريس ديبي، في معركة مشهورة أكدت العبقرية العسكرية لهذا القائد التشادي، وجرى القبض على الجنرال خليفة حفتر، قائد القوات الليبية، في شريط أوزو، قبل أن يُفرج عنه في صفقة معروفة.
تمدّد الحركات السالبة
تواجه تشاد تحديات أمنية جسيمة في منطقة حوض بحيرة تشاد، وذلك بسبب النشاط المتزايد لجماعة بوكو حرام وغيرها من الحركات المتطرفة. وقد ساهمت السياسات الخاطئة التي اعتمدتها الدول المطلة على البحيرة في تعزيز نفوذ هذه الجماعة الإرهابية.
على الرغم من أن الحركات المتطرفة في منطقة البحيرة وعلى امتداد الحدود بين تشاد والنيجر من جانب، وبين تشاد والكاميرون ونيجيريا من جانب آخر، تشكل تهديدًا لجميع دول منطقة الساحل، فإن تشاد تعاني أكثر من غيرها، ربما لأن جيشها هو الأكبر في المنطقة بعد نيجيريا، وقد نفذ عمليات واسعة النطاق وناجحة ضد هذه الجماعات، مما جعلها تستهدف تشاد بشكل أكبر.
إن استمرار التوتر والحروب في ولايات دارفور يمثل تهديدًا أمنيًا إضافيًا لمناطق شرق تشاد المكتظة بالسكان، ومثل هذا المناخ المفعم بالانفلات الأمني يمكن أن يشجع جماعة بوكو حرام وغيرها على التمدد إلى جبهة شرق تشاد، ما يشكل تهديدًا أكبر، خاصة في ظل حالة السيولة الأمنية على الحدود بين تشاد وأفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى الوجود القديم والمستمر لحركات معارضة تشادية في المناطق الصحراوية الشمالية.
إن تعدد بؤر التوتر في تشاد سيؤدي إلى تشتيت جهود المؤسسات العسكرية والأمنية، مما يهدد بقاء الدولة المركزية.
خيارات تجارية أكبر
إن الخلاف السياسي والمشكلات المتزايدة بين تشاد والسودان تحرم تشاد من تعظيم تعاونها التجاري والاقتصادي مع السودان، وهو تعاون حيوي ومربح ومفيد جدًا للبلدين، لكنه يكتسب أهمية أكبر بالنسبة لتشاد لأنها دولة غير ساحلية.
وقد شهد التعاون الاقتصادي ازدهارًا كبيرًا في عهد الرئيس الراحل إدريس ديبي إتنو، لدرجة أنه بدأ التفكير جديًا في إنشاء خط أنابيب لنقل البترول التشادي عبر ميناء بورتسودان.
وقد أجرى الرئيس التشادي عدة زيارات إلى بورتسودان لتخصيص ميناء للواردات والصادرات التشادية، وبدأت بالفعل عملية نقل الواردات التشادية عبر ميناء بورتسودان إلى ميناء أدري الجاف في عام 2016.
وتشير الدراسات إلى أن استخدام تشاد لميناء بورتسودان يقلل مدة وصول البضائع إلى النصف، مقارنة بالطريق الحالي الذي تستخدمه تشاد عبر ميناء دوالا في الكاميرون.
في الواقع، فإن فكرة استخدام تشاد لميناء بورتسودان فكرة قديمة تعود إلى فجر استقلال تشاد، حيث وقّع الرئيس التشادي فرانسوا تمبلباي والرئيس السوداني إسماعيل الأزهري مذكرة تفاهم لتعبيد الطريق البري بين البلدين من نيالا إلى أبشي في تشاد، وذلك في عام 1967.
أزمة المجال الحيوى السوداني
تؤثر الخلافات بين تشاد والسودان بشكل كبير على السودان أيضًا، ويشمل هذا التأثير المجال الأمني والاقتصادي والثقافي والاجتماعي على حد سواء، لكنه يؤثر بالدرجة الأولى على توسيع النفوذ السوداني نحو منطقة الساحل الأفريقي الممتدة من تشاد وحتى تخوم المحيط الأطلسي في السنغال وموريتانيا. وهذه قضية ذات بعد استراتيجي يجب ألا يغفلها صانع القرار السياسي السوداني.
من المعلوم أن لكل دولة نطاقًا حيويًا تؤثر فيه بشكل واضح ويمثل منطقة نفوذ أساسية، تخدم رؤيتها ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، مهما عظم نفوذها في العالم، تعتبر أن أمريكا الجنوبية هي منطقة نفوذ حيوي لها، والصين مهما اتسع نفوذها لن تسمح بالمنافسة في بحر الصين الجنوبي، والعديد من الصراعات الدولية الكبرى – كما هو الحال في أوكرانيا الآن – تهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على مناطق النفوذ الحيوي التي يعتبر الحفاظ عليها جزءًا من الحفاظ على الأمن القومي.
بالنظر إلى السودان، فإن مجاله الحيوي القاري يمتد شرقًا وغربًا وليس شمالًا وجنوبًا كما يظن البعض. وإذا كان الأمر كذلك، فإن تشاد تمثل البوابة الرئيسية لانفتاح السودان نحو نطاقه الحيوي الخصيب في غرب أفريقيا عامة ودول الساحل الأفريقي خاصة.
إن التأثير الثقافي والاجتماعي للسودان على دول الساحل الأفريقي كبير جدًا وملحوظ، وله جذور تاريخية ضاربة تعود إلى حقبة الحضارة النوبية الأولى في شمال السودان، وهناك شواهد كثيرة على ذلك يصعب حصرها في هذا المقال.
بإمكان السودان أن يضطلع بدور أكثر فاعلية في هذه المنطقة على الصعيد الثقافي والاقتصادي والأمني. وتحقيقًا لهذه الغاية، وحتى لا يعزل السودان نفسه عن نطاقه الحيوي، فإن الحفاظ على علاقات التعاون وحسن الجوار مع تشاد يكتسب أهمية استراتيجية قصوى.
الأمن لا يتجزأ
الأمن وحدة لا تتجزأ، فأمن جارك هو جزء لا يتجزأ من أمنك، بل إن أمن الإقليم الذي تنتمي إليه هو جزء من أمنك، لأننا نعيش في عالم متشابك العلاقات ومتداخل المصالح.
لقد أثبتت الحرب الدائرة في السودان صحة هذه المقولة، حيث ظل إقليم الساحل الأفريقي منطقة تعج بالنزاعات والصراعات المتنوعة، مما أسهم في ظهور حركات متطرفة عابرة للحدود، وتفاقمت الجريمة المنظمة، وأصبحت تجارة الأسلحة غير المشروعة وتهريب البشر والجماعات المسلحة المستعدة لبيع ولائها لمن يدفع، ظاهرة متفشية في المنطقة.
ربما لم يكن المواطن السوداني البسيط في قرى ولاية الجزيرة يتوقع يومًا أن هذه الجماعات البعيدة جغرافيًا عنه يمكن أن تصبح تهديدًا حقيقيًا لأمنه، وتوجه سلاحها المأجور لإخراجه من منزله والاستيلاء على ماله وممتلكاته.
لقد كان هناك قادة في تشاد والسودان أدركوا أهمية، بل قدسية، علاقات حسن الجوار بين بلديهما وشعبيهما، من أمثال فرانسوا تمبلباي وإدريس ديبي وجعفر نميري وعمر البشير، وكانوا يتجاوزون الخلافات الصغيرة من أجل المصالح الكبيرة.
ويشهد على ذلك أنه على الرغم من حدة الأزمة الأمنية بين البلدين في عام 2008، عقب عملية الذراع الطويلة ومحاصرة قصر الرئاسة في نجامينا، سرعان ما تجاوز البلدان هذه الأزمة، وعملا على احتوائها من خلال تبني أكبر مبادرة لتعزيز الأمن الجماعي، وهي تجربة قوات الحدود المشتركة.
تعتبر تجربة القوات المشتركة لمراقبة وحفظ أمن الحدود بين تشاد والسودان، التي بدأت في عام 2010، من أهم مبادرات التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، وقد أتاحت الحدود الآمنة سهولة تدفق حركة البضائع والأفراد، وعززت التعاون المشترك على نحو غير مسبوق.
في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها علاقات البلدين، فإن الثوابت العميقة والمشتركة بينهما كفيلة بفتح آفاق جديدة أرحب وأوثق للتعاون والشراكة وحسن الجوار، ويبدأ ذلك بتصفير المشكلات العالقة.
وهذا ليس صعبًا إذا توفرت الإرادة السياسية، والابتعاد عن الاعتماد على الخارج، لأن قبول أجندة الخارج له ثمن باهظ، وقد يكون مكلفًا للغاية.